" الإيموجي".. إشكالية الدلالة والأثر

image
د نعمة العبادي
2023-03-06

كتب : د تعمه العبادي 

وسعت الدراسات الحديثة مفهوم اللغة إلى ما هو أوسع من الملفوظ والمكتوب من الكلمات والاحرف لتشمل الرموز بأشكالها المختلفة ك (دوال) تأخذ حيزها بسرعة مهولة في دائرة استخدام المجتمعات على مختلف اجناسهم ومستوياتهم، وقد ساهم الانترنت بشكل عام ووسائل التواصل على وجه الخصوص بتوسيع هذا الاستخدام إلى درجة ان حصة الرموز " الإيموجي" تشكل حصة الاسد من هذه المحادثات سواء كانت رسمية او غير رسمية.

وانطلاقا من هذه الحقائق وغلبة سياسية الترويج ومنطق الاستهلاك، راحت التطبيقات المختلفة مثل الفيس بوك والتلغرام والواتس آب وغيرهن تبدع المزيد من "الإيموجيات" الجاهزة لتسهل استخدامها من قبل المستخدمين لهذه التطبيقات والمنصات، كما اتاحت بعض البرامج إمكانية تصميم " إيموجيات" خاصة بكل مستخدم، وهكذا نجد تزايد يومي وسريع لهذه الرموز، ولو توفرت امكانية احصاء لعدد هذه  الدوال اي الايموجيات بأشكالها ونماذجها المختلفة، لوجدناها تساوي او تفوق عدد الكلمات المستعملة في كل لغات العالم  مجتمعة الحية والمنقرضة، الامر الذي يعني اننا امام لغة رمزية رديفة تتسع بسرعة النار في الهشيم خاصة إذا علمنا ان عموم المجتمع يميل الى الاختصار والسطحية في الكتابة والتعبير.

يمثل الاختصار وسهولة الاستخدام وسرعة ايقاع الحياة وضعف الالمام باللغة دواعي لهذا الافراط في استخدام الرموز، فالقلوب الحمراء وعلامات الاندهاش ووجوه الحزن والرؤوس الصفراء بتعابيرها ورسومها المختلفة تقدم لغة سهلة (بحسب المستخدمين) للاتصال والتواصل، كما هو الحال في طريقة الكتابة بالكلمات المكونة من حروف وارقام معا، والمستخدمة بشكل واسع بين الشباب والمراهقين من الناطقين باللغات ذات الاصول اللاتينية.

تكمن المشكلة في استخدام "الإيموجي" في خطرين عظيمين تؤشر لهما اكثر من دراسة في هذا المجال، الاول خطر انحسار استخدام اللغة بمفهومها التقليدي، والذي يتبعه عجز التعبير والكتابة بواسطة الكلمات فضلا عن الالمام بها، والثاني، يحوي على شقين، الاول، يتمثل في انفصال الانسان عن مشاعره الحقيقية تدريجيا نظرا لكون هذه الرموز غير ناطقة بشكل دقيق بمضمون وحقيقة تلك المشاعر، وان الارتباط ما بين الرمز الجاهز والحالة المشاعرية للانسان اضعف بكثير من صورة الارتباط ما بين المشاعر والجملة او الكلمات التي يحاول الانسان التعبير بها عما يختلجه من مشاعر، واما الشق الثاني، فيتمثل في الخداع الذي تمارسه هذه "الإيموجيات" للتصرف بالحقائق والواقع سواء من خلال تضخيمها او تصغيرها، او التعبير عن الحال بغير صورته الحقيقية، ومعها نكون امام لغة تدون الواقع بطريقة زائفة وكاذبة عن قصد او عن دون قصد.

ومثل الوضع في معظم القضايا الحساسة ومخاطرها، لا يلتفت عموم المجتمع الى هذا الخطر الذي يحيط به مع رزم من اخطار اخرى لا تقل شأنا عنه، كما، ان معظم النخب وحتى المؤسسات الاكاديمية يندر اشتغالها من منطلق (هاجس المسؤولية والخوف) على مثل هذه الموضوعات التي تمس حياتنا بعمق، إذ ان المقاربات الاكاديمية، لا تتعدى كونها مشاريع دراسية للحصول على شهادة ما في احد الفروع المرتبطة بعلوم الاتصال واللغة.

وإذا اضفنا الى هذه الحقائق، الانحسار او الغياب التام لدروس الانشاء والمطالعة والإملاء في عموم المدارس، وبموازاتهن تقلص مساحة الحوارات المباشرة داخل الاسرة والمجتمع، ومعهن التغول الكبير للتكنولوجيا في حياتنا والانبهار التام بكل منجزاتها، والى جانبهم غياب الانشغالات المعرفية الجادة بالتحديات الاجتماعية والثقافية الحساسة، نكون امام صورة قاتمة لمستقبل اللغة والتواصل والفهم والتفكير والتعبير عن المشاعر وتضرر الكثير من مجالات الحياة المهمة.

ادرك ان هناك من يقول في داخله، اي اهمية لهذا الموضوع مقابل هموم العيش وتوفير فرص العمل، ولكن هذا القول ساذج وقاصر عن ادراك خطر مخيف يتجاوز كل ما قيل من الاهميات، فاللغة تساوي الحياة، والاتصال والتواصل عصب هذه الحياة، والمشاعر والاحاسيس هي المادة اللاصقة التي تتماسك من خلالها ذرات هذا الوجود الواعية وغير الواعية، كما ان تصور الحياة بلغة تزيف الواقع وتقدمه بصورة مختلفة يمثل دوامة وهم تتجاوز خطر الأوبئة البغيضة، لذا نحن بحاجة ماسة الى وقفة مراجعة وتأمل.

وإذا كان هناك من خطوات عملية في هذا الاتجاه، ففي مقدمتها تشجيع كل مظاهر استخدام اللغة التقليدية مثل دروس الانشاء والمطالعة والحوارات المفتوحة، وكذلك سعي الجميع الى تقليص دائرة استخدام الرمز إلا في الضرورة مع التأكد من صدق دلالتها، وقدرتها في التعبير عن المطلوب، ولا بد من دراسات عميقة وناضجة تناقش هذا التحدي بطريقة تكون مهمومة ومنشغلة بالحلول وتحسين وتنمية الواقع.

د. نعمه العبادي /مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي شييك وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً