أصوات في الظل.. كيف همّشت حرب أيلول حقوق ذوي الإعاقة في لبنان؟

image
أصوات في الظل
صحيح منوعات 2025-07-23



تقرير:  نسيم البتديني. 


 "بس يجي الطيران، بجمد بالفرشة، ما بقى بتحرك حتى بقطع نفسي..  بفكر إذا تحركت، بدها تزيد على شي وتضرب خاصة" بهذه الكلمات تصف "فاطمة" وهي شابة لبنانية من ذوي الإعاقة، معاناتها خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2024. لكن هذه المعاناة لم تنته بوقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، بل تفاقمت مع استمرار إسرائيل في خرقه عبر  الاستهدافات المتكررة والقصف المستمر على المناطق اللبنانية.

فيما كانت إسرائيل تقصف المدن اللبنانية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، عاش الأشخاص ذوو الإعاقة فصولًا مضاعفة من المعاناة اليومية. وكأن الحرب لم تكن كافية لتزيد من عزلتهم وتحدياتهم. في ظل غياب الدولة وعجزها عن توفير الحد الأدنى من الرعاية أو الحماية، وجد كثيرون منهم أنفسهم في مواجهة الخطر دون مأوى آمن، أو دواء، أو حتى وسيلة للخروج من منازلهم.

لقد كانوا من أكثر الفئات تهميشًا، ومع ذلك، نادرًا ما سُلط الضوء على مأساتهم أو أُدرجت احتياجاتهم ضمن أولويات خطط الإغاثة والاستجابة.

لم تكن الحرب بالنسبة لفاطمة، البالغة من العمر 43 عاماُ، مجرد مشهد عابر من القصف والدمار الذي خلفه العدوان الاسرائيلي على منزلها ودكانها في منطقة البقاع، بل كانت لحظة فاصلة طمست ما بنته بإصرار على مدى سنوات، ليكون سندًا لها في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الأشخاص ذوو الإعاقة في لبنان.


تقول فاطمة "نحنا بمراكز الإيواء ما كنا فينا نكون، لأننا كنا أربعة أشخاص عنا إعاقة حركية".  وتضيف "بلحظة، الضرب مسح كل تعب السنين".



لم تكن فاطمة الوحيدة التي تأثرت بالحرب، فشهادتها تعكس واقعًا يعيشه كثيرون وجدوا أنفسهم في قلب النزاع بلا مأوى ولا حماية. لكن قصص المعاناة لا تتوقف عند حدود النزوح أو الخوف؛ فبعضها يكشف عن أوجه أكثر هشاشة، حين تقترن الأزمات باحتياجات خاصة لا تضعها خطط الطوارئ في الحسبان.

ندى (اسم مستعار)، فتاة أخرى وجدت نفسها في مواجهة حرب لم تكن مهيّأة لها لا جسديًا ولا لوجستيًا. فإلى جانب شقيقها المصاب أيضًا بالضمور العضلي، اضطرت للنزوح من منزلها في بلدة برج رحال، جنوب لبنان، من دون أي دعم رسمي أو خطة إخلاء تراعي احتياجات ذوي الإعاقة. وبمساعدة شقيق ثالث، تمكّن الثلاثة من الفرار، بعدما أقلّهم بسيارته إلى منطقة أكثر أمانًا.

الرحلة التي استغرقت أكثر من 13 ساعة بسبب الازدحام لم تكن النهاية؛ فعند وصولهم إلى الشقة المؤقتة، اصطدمت ندى بعقبة جديدة: لا مصعد يتسع لكرسيها المتحرّك، ولا تجهيزات أساسية تراعي حالتها. تقول ندى: "إذا بدي فوت على الحمّام كانوا يحملوني، لأن كرسي الحمّام الخاص بالأشخاص ذوي الإعاقة كان كبير وما كانت تساع."

الاستراتيجية الوطنية.. مع وقف التنفيذ 

تواصل معدّ التقرير مع وزارة الشؤون الاجتماعية للاستفسار عن موقع الأشخاص ذوي الإعاقة ضمن الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية.

وجاء في الرد أن هذه الاستراتيجية أطلقت من قبل مجلس الوزراء السنة الماضية، وأن  جميع الوزارات المعنية تشارك في تطبيقها، حيث يجري حاليًا وضع خطط العمل اللازمة لذلك. 

وأضافت الوزارة  أنها تعمل على إعداد رؤية جديدة تنطلق من هذه الاستراتيجية، بهدف إعادة هيكلة مهام وصلاحيات وزارة الشؤون الاجتماعية، بما يستجيب للاحتياجات والتحديات والتحولات القائمة.

لكن الإشكالية في استراتيجية الحماية الاجتماعية لم تكن في تفاصيلها الفنية أو طموحاتها المعلنة. فهذه الاستراتيجية، التي وضعتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة «اليونيسف» ومنظمة العمل الدولية عام 2019، جاءت في إطار أول حوار وطني  في لبنان حول الحماية الاجتماعية، بمشاركة جهات حكومية وشركاء تنمية وممثلين عن المجتمع المدني والمجال الأكاديمي.


منذ البداية، بدت الاستراتيجية أقرب إلى رد فعل على واقع اجتماعي ضاغط، أكثر منها مبادرة نابعة من قناعة سياسية راسخة بضرورة الإصلاح. 


افتقرت إلى وضوح الأدوار بين الجهات الحكومية المختلفة، وإلى آليات تنفيذ محددة. كما أن وزارة الشؤون الاجتماعية، المكلّفة بقيادة المشروع، لم تكن مهيّأة من حيث الموارد أو النفوذ السياسي، وكانت تفتقر إلى أدوات المتابعة والتقييم.


في المقابل، تعاملت مؤسسات الدولة الأخرى مع الاستراتيجية كوثيقة رمزية غير ملزمة، ما جعلها عرضة للتجميد عند أول تغيير سياسي أو أزمة اقتصادية. وهكذا، بدأت المشكلة بغياب الجدية منذ اللحظة الأولى.



كما أوضحت الوزارة أن هناك استراتيجية وطنية خاصة بحقوق ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة، وهي حاليًا بانتظار ردود الوزارات المعنية تمهيدًا لإطلاقها قريبًا. 

ووصفتها بأنها خارطة طريق تُلزم الوزارات والإدارات العامة والمجتمع المدني بأداء واجباتهم وتحمل مسؤولياتهم. بما يتماشى مع روح الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الصادرة عام 2006، والتي صادق عليها لبنان مؤخرا .هنا (مؤرشف)


لكنّ الرد لم يوضح بشكل تفصيلي كيف سيُترجم هذا الإدماج إلى إجراءات عملية أو خطط تطبيقية واضحة، خصوصًا في ظل الظروف الطارئة أو خلال فترات الأزمات.


ما هي الإستراتيجية الوطنية ؟

الاستراتيجية الوطنية لحقوق ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة هي ثمرة شراكة استراتيجية بين منظمة العمل الدولية واليونيسيف من جهة، وبين تماني جمعيات تمثل الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان من جهة أخرى. وقد وُضعت هذه الاستراتيجية لإحداث تغيير قائم على رؤية واضحة، وأهداف محددة، وإطار عمل واقعي للتنفيذ على مراحل، بما يؤسّس لمجتمع دامج يقوم على العدالة والمساواة ومنع التمييز.

تعتمد الاستراتيجية اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة كوثيقة إرشادية وملزمة، وتتبنّى مبادئها كافة، وتضع سياسة الإدماج في صلب أولوياتها، في مختلف مناحي الحياة: الاقتصادية، الصحية، الاجتماعية، التربوية، السياسية وغيرها. هنا (مؤرشف)



وفي السياق، بتاريخ 24 أبريل/نيسان 2024، شارك وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال، هيكتور حجار، في مؤتمر اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في نيويورك، حيث شدّد على أهمية الاستراتيجية الوطنية لحقوق ودمج ذوي الإعاقة (2020-2030)، التي تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة ومنع التمييز. كما أعلن عن خطة لزيادة عدد مراكز تأمين حقوق ذوي الإعاقة إلى 14 مركزًا بحلول عام 2025. هنا (مؤرشف)



برامج الحماية الإجتماعية

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عقد وزير الشؤون الاجتماعية، مؤتمرًا صحافيًا أعلن فيه تخصيص 450 مليار ليرة لبنانيّة من موزانة لعام 2024، لصرف مساعدات اجتماعية طارئة للأشخاص ذوي الإعاقة الحاصلين على  بطاقة إعاقة شخصية. هنا (مؤرشف)


ووفق ما أعلنت الوزارة، فقد ساهمت في حماية الأشخاص ذوي الإعاقة خلال الحرب عبر تقديم دعم مالي، ومساعدات عينية، بالإضافة إلى التعاون مع مؤسسات تابعة لها لتوفير خدمات التأهيل، والتعليم، والتدريب.




تزايد حالات الإعاقة خلال الحرب

بهدف الحصول على معلومات محدثة تدعم محتوى التقرير حول أعداد الجرحى والمصابين جراء الحرب، قدّم معدّ التقرير طلبًا رسميًا إلى وزارة الصحة اللبنانية بموجب قانون حق الوصول إلى المعلومات. إلا أنه لم يتلقَّ أي رد حتى تاريخ نشر التقرير.



وبالعودة إلى موقع الوزارة، تبيّن أن آخر إحصاء بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2024 يشير إلى أن قرابة 17 ألف شخص انضموا إلى قائمة الجرحى والمصابين نتيجة الحرب الإسرائيلية. هنا (مؤرشف)

وبحسب الإحصاءات التي قُسّمت بين ما قبل وبعد 15 سبتمبر/ أيلول 2024، بلغ عدد الشهداء الإجمالي 4047،  بينهم 316 طفلاً و790 امرأة، فيما وصل عدد الجرحى إلى 16,638 بينهم 1456 طفلاً و2567 امرأة. 

وأشار وزير الصحة السابق، فراس الأبيض، إلى ارتفاع إصابات الأطفال مع توسّع العدوان، ما يعكس استهداف المدنيين بشكل واضح. 

كما أسفر استهداف القطاع الصحي عن سقوط 222 شهيدًا و330 جريحًا، وتعرض 40 مستشفى لـ67 اعتداءً، بينها 7 مستشفيات أُغلقت قسرًا و3 تعمل جزئيًا، ما أدى إلى سقوط 16 شهيدًا و73 جريحًا، فضلًا عن أضرار لحقت بـ25 آلية.

وشهدت الجمعيات الإسعافية 238 اعتداءً، خلّفت 206 شهداء و257 جريحًا، إلى جانب استهداف 66 مركز إسعاف، و177 سيارة إسعاف، و60 سيارة إطفاء، و19 آلية إنقاذ. كما أُغلقت 56 مركز رعاية أولية، بينها 33 مركزًا تضرّر كليًا.

وقدّمت الوزارة خدمات صحية لأكثر من 209,700 نازح، وصرفت 2,684,595 علبة دواء، و87,141 علبة حليب للأطفال. كما تلقت الخطوط الساخنة 47,752 اتصالًا، وتم توزيع 514 عملية أدوية ومستلزمات على مستشفيات وجمعيات، شملت 29 مستشفى حكوميًا و89 خاصًا، إلى جانب توزيع 352 ألف لتر مازوت، بقيمة تقديرية تجاوزت 7 ملايين دولار.


المصدر وزارة الصحة العامة

المصدر: موقع وزارة الصحة العامة.


وضع الإعاقة في لبنان.


في حديثها لـ"شييك"، استعرضت سيلفانا اللقيس، رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا، واقع الإعاقة في لبنان، مشيرة إلى أن هذه الفئة لطالما عُوملت بطريقة "عازلة وموازية"، دون أن تُدرج ضمن سياسات الوزارات وخططها.


وأضافت اللقيس أن تعدد الأزمات في لبنان — من جائحة كورونا، إلى انفجار المرفأ، ثم الأزمة الاقتصادية، وصولًا إلى الحرب — جعل الأشخاص ذوي الإعاقة من الفئات الأكثر تضررًا، مشيرة إلى أنهم "يتأثرون أربع مرات أكثر من غيرهم"، وأصبحوا من أفقر الفقراء نتيجة السياسات العازلة، سواء كانت مقصودة أم لا.




تحديات الأشخاص ذوي الإعاقة 

واجه الأشخاص ذوو الإعاقة تحديات مضاعفة خلال العدوان على لبنان، وسط غياب واضح للتجهيزات الاساسية في مراكز الايواء، وسوء تخطيط مسارات للإخلاء، ما كشف عن هشاشة البنية التحتية وافتقارها إلى المقومات اللوجستية اللازمة لتلبية احتياجاتهم.


وأشارت اللقيس إلى أنه مع بداية الاعتداءات، تمّت مساءلة الجهات المسؤولة عن خطة إدارة الكوارث بشأن تحضيراتها، ومدى مراعاتها لاحتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة في مراكز الإيواء. إلا أن الردود لم تُترجم إلى أي استعداد فعلي، إذ لم تكن المراكز مؤهلة لاستقبالهم عند الحاجة.


من جهته، قال عامر مكارم، رئيس جمعية الشبيبة للمكفوفين، إن العديد من مراكز الإيواء لم تكن مجهزة لوجستيًا لاستقبال ذوي الإعاقة، موضحًا أن غياب العاملين الاجتماعيين فيها جعل من الصعب على ذوي الإعاقة البصرية تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وأمام هذا الواقع، اضطر البعض لاستئجار شقق خاصة رغم كلفتها المرتفعة، بينما لجأ آخرون إلى منازل أقاربهم هربًا من غلاء الإيجارات وانعدام الخدمات المناسبة.



ورشة عمل بلا صدى

تضيف اللقيس أن الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا نظم ورشة عمل بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2023 هنا (مؤرشف)، بالشراكة مع المنتدى العربي لحقوق الأشخاص المعوقين ومنظمة "الدياكونية"، في إطار مرصد حقوق الأشخاص المعوقين.


شارك في الورشة وزير البيئة السابق ناصر ياسين (منسق خطة إدارة الكوارث حينها)، إلى جانب منظمات دولية ووزارات منخرطة في إدارة الطوارئ. حملت الورشة عنوان: "حقوق الأشخاص المعوقين والمساعدة الإنسانية الشاملة".



استندت الورشة إلى المادة 11 من الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تنص على "تعهد الدول الأطراف وفقا لمسؤولياتها الواردة في القانون الدولي، بما فيها القانون الإنساني الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان، باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النـزاع المسلح والطوارئ الإنسانية والكوارث الطبيعية" هنا



وقد طُرح خلال الورشة اقتراح بإنشاء وحدة خاصة للإعاقة ضمن إدارة الكوارث للعمل على خمسة محاور أساسية، إلا أن هذه المبادرة بقيت من دون أي صدى ولم يتم تنفيذها.


كوارث بدون إدارة

قال  مكارم إن حجم الأزمة شكّل شبه مفاجأة لأجهزة الدولة، التي لم تكن مستعدة للتعامل مع هذا المستوى من الاحتياجات. 

ولفت إلى أن الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية لا يمكنهم الإخلاء خلال فترات قصيرة دون دعم مباشر، خصوصًا في ظل غياب فرق الإخلاء وخطط الطوارئ، ما اضطرهم للاعتماد الكامل على أفراد عائلاتهم بدلًا من وجود خطة وطنية شاملة.

 وأوضح مكارم أن خطة الكوارث التي وُضعت لم تشمل إشراك الجمعيات المتخصصة بذوي الإعاقة، معتبرًا أن هذه الفجوة شكّلت نقطة ضعف رئيسية، إذ تمتلك هذه الجمعيات الخبرة الكافية لتحديد احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة خلال الأزمات.

مراكز الإيواء: استجابة ضعيفة و معايير انتقائية 

يروي مكارم لـ"شييك" قصة تعكس هشاشة أوضاع ذوي الإعاقة في مراكز النزوح، مشيرًا إلى رجل من ذوي الإعاقة البصرية كان يعيش بمفرده في بيروت. ومع اشتداد القصف، لجأ إلى أحد مراكز الإيواء في العاصمة، لكن مدير المركز رفض استقباله بحجة أنه ليس برفقة أحد. 

وبعد محاولات عديدة، نُقل إلى مركز في شمال لبنان تشرف عليه جمعية متخصصة برعاية ذوي الإعاقة البصرية، ما أتاح له الحصول على الحد الأدنى من الرعاية والدعم.


وأشارت اللقيس إلى أن بعض مراكز الإيواء لم تكن أمينة على مستودعات المؤن، حيث حصل النازحون على كميات أقل بكثير من احتياجاتهم اليومية من مواد أساسية مثل الحفاظات، أدوات التنظيف الشخصية، الفوط الصحية، وحليب الأطفال.


في السياق ذاته، قالت فاطمة لـ"شييك" إنهم حُرموا من الحصص الغذائية رغم تهجيرهم، موضحة أن الجهات المعنية بررت ذلك بعدم تواجدهم في مراكز إيواء رسمي. وأضافت: "ما قدرنا نفوت على مراكز الإيواء لأننا كنا أربعة أشخاص من ذوي الإعاقة الحركية".


ضحايا التحرش

بينما كانت النساء يهربن من شبح الموت تحت القصف ومرارة التهجير، واجهن في بعض مراكز الإيواء شبحًا آخر أكثر خفاءً: التحرّش والاستغلال.

في شهادتها لـ"شييك"، أكدت الناشطة سيلفانا اللقيس أن بعض القائمين على مراكز الإيواء استغلوا ضعف النساء من ذوات الإعاقة، وابتزهن تحت ضغط الحاجة.  وقالت: "إما الرضوخ والانصياع لمطالبهم، أو الحرمان من المساعدات"، مشيرة إلى أن الابتزاز لم يكن حالة فردية، بل سلوكًا تكرر في أكثر من مركز.

وتضيف تدخّلت فرق الاتحاد اللبناني للأشخاص ذوي الإعاقة حركيًا في بعض الحالات، ونجحت في حماية عدد من النساء، إلا أن قدرتها على الاستجابة كانت محدودة، ما ترك العديد من الضحايا بلا دعم أو إنصاف.



غياب اللجنة النيابية 

رغم المحاولات المتكررة للتواصل مع غالبية أعضاء لجنة حقوق الإنسان النيابية، تعذّر على معدّ التقرير إجراء مقابلات مباشرة معهم، بسبب ارتباطات تتعلق بالسفر أو انعقاد جلسات تشريعية متزامنة. 

وبعد التواصل مع أكبر عدد ممكن من أعضاء اللجنة دون جدوى، تم تحديد موعد مع النائبة حليمة قعقور، التي شاركت في عدد من جلسات اللجنة، بهدف مناقشة محاور التقرير والاستماع إلى موقفها.

وصفت قعقور الواقع بالقول "الدولة تغيب ومؤسساتها تغيب خلال الحرب"، خلال الأزمة الأمنية والسيادية التي يمر بها لبنان، وأضافت: "كان علينا أن نجتمع لمساعدة الحكومة في تطبيق خطة الطوارئ، لكن خلال الحرب توقفت كل اللجان النيابية، واعتُبر أن الاجتماع خيانة في وقت يموت فيه الناس".

 وأشارت  قعقور إلى أن اللجنة لم تلعب أي دور، "لا مع الأشخاص ذوي الإعاقة، ولا مع سائر اللبنانيين خلال الحرب ".



إعادة الإعمار

وسط الحديث عن إعادة الإعمار، تتقاطع أمنيات فاطمة وندى، وهما من ذوي الإعاقة الحركية، عند نقطة واحدة: أن تكون المرحلة المقبلة فرصة لبناء بيئة دامجة تراعي احتياجات الجميع.


تقول فاطمة بنبرة تختزن سنوات من العوائق اليومية: "بس أطلع من البيت على الأماكن العامة، بدي يكون في تجهيز هندسي يناسب الأشخاص ذوي الاحتياجات"، وتتابع ندى: "نتمنى أن تكون الأماكن مجهّزة، حتى تحترم البيئة اختلافنا وتكون أكثر عدالة".

هذه المطالب لم تعد مجرد أحلام فردية، بل تحولت إلى قضية مطروحة على طاولة النقاش العام، وفق ما أكدته النائبة حليمة قعقور، التي رأت في مرحلة الإعمار فرصة لتصحيح المسار. 

تقول: "الحكومة لديها حس بالمسؤولية تجاه هذا الملف، ويمكن أن تلعب دورًا في إنجاز إعمار نموذجي يأخذ بعين الاعتبار احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، ويجعل من الفضاء العام مساحة متاحة وعادلة للجميع".


قانون 220/2000 

ينص قانون 220/2000 في القسم الرابع منه " في حق الشخص المعوق ببيئة مؤهلة"، في  المادة 33 "أ"، على أن "لكل شخص معوق الحق ببيئة مؤهلة، بمعنى أن من حق كل شخص معوق الوصول إلى أي مكان يستطيع الوصول إليه الشخص غير المعوق". وينص البند "ب" على أنه "يجب على كافة الأبنية والمنشآت والمرافق العامة والخاصة المعدة للاستعمال العام، أن تكون مواصفاتها الهندسية منطبقة مع المعايير ووفق الشروط والأصول المنصوص عليها في هذا القانون".


وأشارت سيلفانا اللقيس إلى أن حملة "عَمِّر للكل" ستُطلق خلال فترة إعادة الإعمار، وتهدف إلى مراقبة عمليات الإعمار والمطالبة بأن تراعي حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وفق المعايير الدولية،  واستنادًا إلى دليل المعايير الهندسية الذي أنجز بالتعاون مع الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا ونقابة المهندسين. هنا (مؤرشف)



وأضافت أنه يجب أن تتضمن برامج البلديات الصاعدة خططًا واضحة لجعل المرافق العامة دامجة وجاهزة لكل أشكال التنوع المجتمعي.


تهميش قانون 220 

رغم أن قانون 220/2000 راعى جميع حقوق الإنسانية للأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أنه غالبًا ما يتم تجاهله أو تناسيه 

وقالت النائبة حليمه قعقور، إن القانون يُطبّق بشكل محدود، ما يعكس غياب الإرادة السياسية والجدّية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان. وأضافت أنه عند طرح قوانين تُعنى بهذه الحقوق، لا تحظى باهتمام كافٍ لأنها لا تُعتبر ذات أولوية استراتيجية.

وترى قعقور أن هذا الإهمال مرتبط بخلل في العقد الاجتماعي القائم بين الدولة والمواطنين، والذي لا يستند إلى الحقوق، بل إلى توازنات طائفية وتقاسم النفوذ، ما يؤدي إلى تهميش قضايا إنسانية جوهرية، مثل حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

وأكدت أن الرقابة والمساءلة المفترضة من المجلس النيابي لا تُطبّق كما يجب لضمان الالتزام بالقوانين. لذلك، هناك حاجة ملحّة لتعديل قانون 220 وتفعيل تطبيقه، لكن الأولويات غالبًا ما تُوجَّه إلى ملفات أخرى، على حساب هذه الحقوق الأساسية.


المصادقة على الاتفاقية 

بعد قرابة 18 عامًا من توقيع لبنان على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بتاريخ 14 يونيو/ حزيران 2007 والغرض من الاتفاقية أن تكون أداة من صكوك حقوق الإنسان ذات بُعد تنموي اجتماعي واضح. وهي تعتمد تصنيفًا واسعًا للأشخاص ذوي الإعاقة وتعيد التأكيد على أن جميع الأشخاص ذوي الإعاقة يجب أن يتمتعوا بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية. (هنا). 


وكانت قد أعلنت رئاسة الجمهورية اللبنانية أن رئيس الجمهورية قد وقّع، بتاريخ 10 أبريل /نيسان 2025، وثيقة إبرام الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبروتوكول الاختياري الملحق بها، في خطوة تُعدّ مفصلية إذ تؤكد التزام لبنان الراسخ بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. هنا (مؤرشف).





تفاعل مع توقيع الاتفاقية 

قال عامر مكارم رئيس جمعية الشبيبة للمكفوفين إن "عمل الاتفاقية مرهون بالأيام الآتية" مشيرًا إلى أن لبنان أصبح ملزم بتنفيذ كامل بنودها، وتطبيقها بشكل كامل يتطلب عملاً جاداً لسنوات طويلة، بالإضافة لتوزيع المهام بين الوزارات والتشريعات من مجلس النواب فضلاً عن توفير الخدمات والبنية التحتية المناسبة، وبهذه الطريقة نضمن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

من جانبها قالت سيلفانا اللقيس إن "الاتفاقية جاءت نتيجة نضال طويل" وتهدف  إلى تحقيق الدمج الكامل وتمكين الحقوق، ويتطلب تطبيقها مراجعة القوانين وإجراء التعديلات الضرورية، وهو مسار قد يكون طويلًا أو قصيرًا وفقًا لأداء الجهات المعنية والإرادة الوطنية. بالنسبة لحركة الإعاقة في لبنان، يُعد تفعيل تطبيق الاتفاقية أولوية قصوى.

وبينما تتعدد التحديات التشريعية والمؤسساتية لتفعيل الاتفاقية، يظل صوت فاطمة، واحدة من ذوي الإعاقة،  تذكيرًا بجوهر هذه التعهدات، إذ تقول: "تكون الأماكن مجهزة حتى تكون البيئة دامجة وتحترم الاختلاف... بس أطلع من البيت للأماكن العامة، يكون في تجهيز هندسي يناسب الأشخاص ذوي الاحتياجات."

كلماتها ليست مجرد أمنية، بل مطالبة صريحة بالحق في الوصول والكرامة والعيش المتساوي. وهي تختصر، بصدق ووضوح، ما يجب أن يكون أولوية في مرحلة ما بعد الحرب: بناء بيئة عادلة، لا تُقصي أحدًا.






"تم إنتاج هذا المحتوى بدعم من منظمة أوكسفام في لبنان، كجزء من مشروع وئام؛ العمل من أجل المشاركة والقبول والوساطة؛ الممول من الاتحاد الأوروبي.

لا يعكس المحتوى بالضرورة آراء أو وجهات نظر منظمة أوكسفام في لبنان أو الاتحاد الأوروبي."


"هذا المحتوى تم بإشراف منصة شييك، ولا يعكس بالضرورة آراء أو وجهات نظر منصة شييك."