لبنان
شييك: محمد شبارو
في لبنان، لم يعد الإعلام مجرّد ناقل للأحداث أو منبر للتصريحات، بل صار لاعبًا أساسيًا في صناعة المحتوى الرقمي. التصريحات السياسيّة، والتقارير الإخبارية، والمقابلات، تُقطّع اليوم إلى مقاطع قصيرة، مصمّمة بعناية لتناسب إيقاع المنصّات الرقميّة: عنوان مثير، جملة مقتطعة من سياقها، مونتاج سريع، مؤثّرات بصريّة أو موسيقيّة، ثم يُدفع بها إلى الجمهور الذي يتلقّاها عبر شاشات الهواتف.
هذه المقاطع التي تستجيب لمتطلّبات الخوارزميات، تحكم منطق الانتشار على المنصّات المختلفة مثل إكس وإنستغرام، وغيرها. فالخوارزميات تكافئ المحتوى الذي يثير الغضب أو الاستفزاز أو الحماس، لأنها تعرف أنّه يخلق تفاعلًا سريعًا (مشاهدات، تعليقات، مشاركات). والنتيجة أنّ أكثر ما يلقى انتشارًا هو غالبًا الأكثر استقطابًا: خطاب يختزل الواقع، يعمّق الانقسام، ويحوّل الاختلاف السياسي أو الديني إلى مادة جاهزة للكراهية.
مقاطع إعلامية تعيد إنتاج خطاب الكراهية
ينطلق هذا التقرير من فرضيّة مفادها أن وسائل الإعلام اللبنانيّة، عبر إعادة قولبة محتواها في قصاصات رقميّة، لا تكتفي بالتغطية، بل تساهم في تضخيم خطاب الكراهية وتعزيزه داخل الفضاء الرقمي.
قام معد التقرير باختيار عينة عشوائية من مقاطع الفيديو المنشورة على منصات وسائل الإعلام الرقمية بين 20 و30 سبتمبر 2025، لتتبع كيفية إعادة تشكيل الخطاب الإعلامي، وطريقة تقديمه للجمهور، إضافة إلى رصد تفاعل المتابعين عبر تعليقات تعيد إنتاج أنماط الانقسام الطائفي والتحريض نفسها. هنا هنا هنا هنا هنا
"سبوت شوت"
نشرت منصة "سبوتشوت" الإعلامية على قناتها على يوتيوب في ٢٨ سبتمبر/ أيلول مقابلة مع الصحافي غسان سعود ضمن برنامج “وجهة نظر” تحت عنوان "غسان سعود يحلق شوارب" خريج مدرسة المشانق كنا ناطرين من نواف مذكرة تعيد الودائع والتعديات...." ثم أعادت لاحقاً تقطيع المقابلة ونشرها على منصة "إكس" على شكل سبعة مقاطع فيديو. أحد هذه المقاطع حصد وحده ٢٧ ألف مشاهدة، إضافة إلى ثلاثين تعليقاً تضمن معظهم ألفاظ كراهية متبادلة مثل “هذا من حثالة الصحافة" و"مش الحق عليه الحق عالتور اللي قاعد معو والدكانة اللي بيشتغل فيها" و"شو زبالة هيدا تفه"، كما أُرفق مقطع الفيديو بشرح توضيحي [ "الصحافي غسان سعود يجلب إلى استوديو "سبوت شوت" ظرف فيه "شعر" يقول أنه من شوارب رئيس الحكومة نواف سلام ويقول: لقد تم الدعس على هذه الشوارب يوم أمس أمام صخرة الروشة" ] ورابط لمشاهدة المقابلة كاملة على يوتيوب.
أثار المقطع جدلاً من خلال إعادة تداوله والتعليق عليه من قبل عدد من الناشطين على اكس لأنه تضمّن إظهار ظرف يزعم أنه يحتوي على شعر من "شارب نواف سلام" بقصد التهكم مستخدمًا عبارات معينة مثل "تمسح الأرض بشعراتن وبشواربن
قناة ال “ام تي ڤي"
قناة MTV أعادت نشر مقدّمتها الإخبارية التي جاءت تحت عنوان “هيبة الدولة انتحرت” عبر حسابها الرسمي على “إنستغرام” بتاريخ ٢٥ سبتمبر/أيلول 2025. وقد أثارت هذه المقدّمة جدلاً واسعاً بعد أن حصدت أكثر من ٤٠٠ ألف مشاهدة، إضافة إلى ما يزيد عن ألف تعليق. معظم هذه التعليقات تضمّنت عبارات وُصفت بأنها تحمل خطاب كراهية.
يأتي مضمون المقدمة حول تقصير القوى الأمنية والجيش اللبناني بواجباتهم وعدم تطبيقها لقرارات الحكومة اللبنانية بمنع استعمال الأملاك العامة لأسباب سياسية على خلفية إضاءة صخرة الروشة بصورة شخصيات سياسية تابعة لـ "حزب الله" ، تخلل النقطع بعض العبارات مثل"هل القوى الأمنية والجيش عاجزة حقًا عن تنفيذ القرار أم أنها فضلت عدم التطبيق لأسباب خاصة بها" "صورة سوداء قدمها الجيش" "من سيحترم دولة لا تحترم نفسها" "الدويلة تغلبت على الدولة"
"جريدة الأخبار" الإلكترونية
نشرت جريدة الأخبار على صفحتها في منصة “إكس” مقطع فيديو ترويجي في ٢٥ سبتمبر/ أيلول لتقريرها المنشور عبر موقعها الإلكتروني ٢٥ سبتمبر/أيلول تحت عنوان: “سلام ينتقل إلى مرحلة إثارة الفتنة”. تضمّن الفيديو عبارات تحريضية بحق رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، من بينها توصيفه بأنه: “يتصرّف بعقلية زعيم من الحرب الأهلية”. كما أُرفق المقطع بتسمية توضيحية احتوت كلمات وُصفت بأنها تحمل طابع الكراهية وتعزّز الفتنة "ربما بات يرى أن باب الفتنة الطائفية هو الطريق الأقصر لتحقيق ما عجز عنه" مع التحذير من “لعبة أكبر تهدّد بتغذية الانقسام الداخلي بدل تعزيز وحدة اللبنانيين في لحظة وطنية دقيقة”. وجاء في سياق النص أيضاً عبارة: “فشل في ترجمة تعهّداته للأمريكيين”.
قناة "الجديد"
مقتطف من حلقة لبرنامج "وهلق شو" الذي نشر على "انستغرام" بتاريخ ٢٨ سبتمبر/أيلول 2025 بعنوان "توتر في استوديو وهلأ شو"، والذي يعرض على قناة الجديد، تضمن سجالاً حاداً بين ضيوف من خلفيات سياسية متناقضة. يتخلل المقطع الذي حصد فوق ٤٠ ألف مشاهدة، تبادل اتهامات وإعادة نبش لحقبة الحرب الأهلية عبر عبارات قد تشكل إثارة للفتنة الداخلية ، حيث قال أحدهم "قاسم قصير" "حصرونا الكتائب القوات اللبنانية مع إسرائيل ببيروت. إسرائيل كل يوم تكسر هيبة الدولة". ليرد الآخر"تمام نورالدين" "أنت عم تساعد إسرائيل بكسر هيبة الدولة». فجاء الرد المقابل: «الكتائب عملوا صبرا وشاتيلا"، هذا السجال أعاد استحضار الماضي الدموي وأحيا ذاكرة الكراهية بين اللبنانيين. يذكر أن المقابلة الكاملة نشرت على يوتيوب قبل أن تُحوّل إلى سبعة مقاطع فيديو تحمل تصريحات حادة.
"ليبانون اون"
نشر موقع Lebanon On عبر قناته على يوتيوب بتاريخ ٢٤ أيلول/سبتمبر 2025 مقابلة طويلة مع الصحافي والباحث السياسي "جوزيف أبو فاضل"، قبل أن يعاد تقطيعها لاحقًا إلى عدة مقاطع وبثّها على منصة "اكس". أحد هذه المقاطع الذي نشر في ٢٩ سبتمبر/أيلول تحت عنوان: "جبران باسيل ما بقى يعمل نائب… عم تحلبه لعمك عالآخر" .
في الفيديو، هاجم أبو فاضل جبران باسيل، قائلاً: "انا تركتوا لجبران باسيل لأنه موضوع قابل للبهدلة"، وأضاف: "أنا مش حاقد عليه، بس أخذ على خاطر يبدو يبلع كل شي", كما استهزأ بالرئيس السابق ميشال عون، واصفاً إياه بـ: "رجال كبير حرام عمره تسعين سنة"، الفيديو حصد أكثر من ٤٠٠٠ مشاهدة و٦ تعليقات، معظمها تضمنت خطاب كراهية نتيجة تفاعل الجمهور مع حدّة خطابه، حيث انعكس خطاب الكراهية في التعليقات أيضاً "جوزف أبو فاضي الله لا يشفيك من هوسك … روح انبض يا جبلة بحص انت"
دلالات الكلمات
المقاطع الخمسة التي رصدها معد التقرير تُظهر التصنيفات الثلاثة لخطاب الكراهية "تمييز - إساءة - تحريض" وذلك بحسب مؤشر شييك. وعلى الرغم من أنها صادرة عن وسائل إعلام مختلفة وبسياقات سياسية متناقضة، فإنها لا تمثل خطابًا صادرًا من جهة سياسية واحدة.
التفاعل الرقمي مع خطاب الكراهية في الإعلام
تشير الأبحاث إلى أن تأثير خطاب الكراهية لا يتوقف عند حدّ بثّه عبر القنوات التقليدية أو المنصات الرقمية، بل يتعزز بشكل مضاعف عبر تفاعل الجمهور. التعليقات، المشاركات، وإعادة التغريد/النشر تحوّل خطاب الكراهية من مجرد خطاب صادر عن وسيلة إعلامية أو شخصية عامة إلى ظاهرة اجتماعية متداولة.
في دراسة للدكتورة زاهرة حرب بعنوان "الصحفيون كمراسلين لخطاب الكراهية: حالة لبنان" “Journalists as Messengers of Hate Speech: The Case of Lebanon“، التي نُشرت كفصل ضمن كتاب "التحديات وآفاق بحوث خطاب الكراهية" “Challenges and Perspectives of Hate Speech Research”، تناولت الظاهرة التي برزت بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020 والتي تُظهر انتقال خطاب الكراهية بين الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث أوضحت أن هذا الخطاب يتحرك بسرعة من المنصات الرقمية إلى الشاشات التلفزيونية، وبالعكس، إذ يقوم الإعلام التقليدي بإعادة إنتاجه ونشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما بيّنت حرب أن الصحفيين في بعض الأحيان يساهمون بشكل مباشر في إعادة إنتاج خطاب الكراهية، سواء بدافع الإثارة الإعلامية أو نتيجة الاصطفاف السياسي، مما يجعل المتلقي ليس فقط "مشاهد سلبي" وإنما طرفًا فعالًا يعيد إنتاج الكراهية أو يواجهها.
التطبيع مع الكراهية
تسلط دراسة Exposure to Hate in Online and Traditional Media" "التعرض لخطاب الكراهية في الإعلام الرقمي والتقليدي" المنشورة عام 2025 في موقع PubMed central الضوء على أن التعرّض المتكرر لخطاب الكراهية في المنصات الرقمية يؤدي إلى تطبيع هذه اللغة. وتُبرز الدراسة كيف يسهم التفاعل الرقمي، بما في ذلك الإعجابات، التعليقات، والمشاركات، في إضفاء شرعية على خطاب الكراهية وجعله أكثر قبولاً في المجال العام. بناءً على ذلك، يمكن اعتبار التفاعل الرقمي عاملاً يعيد تشكيل خطاب الكراهية من كونه رسالة تحمل صفة "الرجع الصدى" أو الـ"خطاب الثانوي"، وهو خطاب يمكن أن يكون في بعض الأحيان أكثر تطرفًا وشدة من النص الأصلي نفسه.
كيف تعمل الخوارزميات ولماذا تدعم خطاب الكراهية؟
تبرز دراسة "الدوافع والآليات الخوارزمية على وسائل التواصل الرقمي" "Drivers and Algorithmi" Mechanisms on Digital Media" mechanisms" المنشورة عام ٢٠٢٣ في مجلة Perspectives on Psychological Science، كيف تبدأ عملية تضخيم المحتوى عبر مفهوم حلقة "التغذية الراجعة" (feedback loop). ففي البداية، يتفاعل المستخدمون مع محتوى يثير مشاعرهم، فتلتقط الخوارزميات هذا التفاعل وتعمل على زيادة توزيع المحتوى ذاته. وعندما يصل المحتوى إلى جمهور أوسع، يتولد مزيد من التفاعل، ما يؤدي إلى تضخيم تأثيره بشكل متسلسل، حتى وإن كان محتوى ضاراً كالخطاب الكراهية. بهذه الطريقة، تصبح الخوارزميات عاملاً محورياً في انتشار وتعزيز هذه الخطابات داخل الفضاء الرقمي.
بهذا الشكل تتحول المنصات الرقمية إلى بيئات يمكن أن تعيد إنتاج وتعزيز أنماط سلبية من الخطاب بدلاً من كبحها، ليس لأن الخوارزميات “تريد” الكراهية، بل لأنها مصمَّمة لتعظيم التفاعل بأي شكل كان، بغض النظر عن طبيعة المحتوى.
قياس درجة الخطورة للعينة
تشكّل خطة عمل الرباط التي أطلقتها الأمم المتحدة عام 2012 إطارًا يحدّد الفرق بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، عبر ستة معايير تشمل السياق والنية والمحتوى ومدى الانتشار والضرر المحتمل. و بالإستناد إلى هذه المعايير، جرى تقييم خطورة الخطاب في العيّنة المرصودة، ضمن سياق لبناني يتّسم بانقسام سياسي وطائفي متزايد، ما يضاعف أثر المحتوى التحريضي على الرأي العام
بعد قياس نسبة الخطورة بالاستناد إلى معايير خطة عمل الرباط تبيّن أن وسائل إعلام لبنانية، عبر إعادة تدوير محتواها التحريضي على المنصات الرقمية، تنتج خطاباً يتنافى مع أربعة من معايير خطة الرباط الستة على الأقل (السياق، الفاعل، المحتوى، النطاق، وربما النية).
ميثاق الشرف الإعلامي
هذا الواقع لا يتعارض فقط مع ما حددته خطة عمل الرباط من معايير للتمييز بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، بل يشكّل أيضًا مخالفة واضحة لمواد ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي في لبنان، خصوصًا المادتان الأولى والخامسة عشر بما فيها المادة 1 التي تنص على “احترام سيادة القانون وتناول بمسؤولية ذاتية ومؤسسية ووطنية المواضيع التي من شأنها المس بأمن الوطن واستقراره أو بالثوابت الدستورية، وعدم تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، أو استخدام أي من الوسائل الاعلامية عند تناول الشؤون الامنية، أو القضائية بشكل يؤدي الى الإخلال بالأمن، أو المس بالوحدة الوطنية.”
وتنص المادة ١٥ "التزام المشرفين على الأخبار والبرامج السياسية في الإعلام المرئي والمسموع والإعلام المكتوب بما فيه الإعلام الإلكتروني المسؤولية الذاتية والمؤسسية التي تقضي باحترام المبادئ والقيم المهنية ومواثيق الشرف الإعلامية والسياسات الإدارية"
النتيجة
أظهر الرصد أن التحول الرقمي في بعض وسائل الإعلام اللبنانية ساهم في انتشار خطاب كراهية متنوع، مستهدفًا فئات اجتماعية وسياسية ودينية، مما يعزز الانقسام بدلاً من تقليله.