لبنان
شييك : تحقيق : حامد الدقدوقي
في إقليم الخروب، يعيش جاد، شاب من ذوي الصعوبات التعليمية، تجربة صعبة تعكس غياب سياسة الدمج المدرسي. أحلامه، مثل أحلام أبناء جيله، اصطدمت بواقع يفتقر إلى مدارس رسمية أو خاصة قادرة على استيعاب حالته أو حالات مشابهة.
اضطر والده لنقله إلى مدرسة خاصة في الجنوب، رغم تكلفتها المرتفعة، على أمل تحقيق تقدّم، لكن بعد عامين من المعاناة تبيّن أن الفريق التعليمي غير مؤهل للتعامل مع مثل هذه الحالات، فكان الانتقال إلى مدرسة متخصصة الخيار الأخير.
رحلة جاد ليست استثناءً، بل معاناة يومية تواجه معظم الأهالي في المنطقة، تبدأ بالبحث عن مدارس متخصصة غالبًا باهظة الثمن، مرورًا بأعباء التنقّل وخطورة الطرقات، وصولًا إلى تكاليف العلاج والأدوية التي تثقل كاهل العائلات.
يؤكد والد جاد أن المشكلة لا تقتصر على غياب المدارس المؤهلة، بل تشمل أيضًا غياب التوجيه والتوعية والكشف المبكر، الذي يمكن أن يُحدث فرقًا في حياة هؤلاء الأطفال. يقول بأسى:
"لو كانت في منطقتنا مدارس رسمية مجهزة بفريق مدرّب ومتخصصين، لما بقي طفل واحد خارج التعليم."
قصة جاد تمثل عشرات الأطفال في إقليم الخروب المحرومين من حقهم في التعليم، رغم إعلان وزارة التربية عام 2023 عن بدء تنفيذ السياسة الوطنية للتربية الدامجة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان. فأين أصبحت تلك السياسة؟
وعود رسمية وسياسية لم تكتمل
في يونيو/حزيران 2023، أطلق وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال الدكتور عباس الحلبي، "السياسة الوطنية للتربية الدامجة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان"، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع المركز التربوي للبحوث والإنماء، وبالشراكة مع اليونيسف، لضمان تعليم جيّد ودمج وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع.
التزمت الحكومة اللبنانية، من خلال وزارة التربية والتعليم العالي، بضمان التعليم الدامج والعالي الجودة لكل طفل في لبنان. وسعت لتحويل جميع المدارس الرسمية والخاصة إلى مدارس دامجة بحلول عام 2030.
كما تعهدت الوزارة ببناء بيئات مدرسية دامجة يُقبل فيها الجميع في جوّ آمن يسوده الاحترام والتقبّل للاختلاف، وتُقدّر فيه إسهامات جميع المتعلّمين دون استثناء، ويُعامل فيه الجميع بعدالة ونزاهة بعيدًا عن التنمّر والعنف.
وبما أن المعلّمين ومديري المدارس يُعدّون جزءًا أساسيًا في بناء أنظمة تعليمية دامجة عالية الجودة، فإن بناء قدراتهم يُعتبر أولوية قصوى. وتسعى الوزارة إلى تنسيق الجهود مع المركز التربوي للبحوث والإنماء، والمؤسسات، والوزارات، والأفرقاء المعنيين، لضمان اتباع نهج شامل ومستدام.
هذه السياسة مصحوبة بخارطة طريق توضّح عملية تنفيذ المراحل والخطوات المرتبطة بها، وتوفّر تدخّلات ومؤشرات أكثر تفصيلاً، كما أنها ستُعزّز المراقبة المنتظمة للسياسة ولكيفية تنفيذها على جميع المستويات.
الواقع الميداني في إقليم الخروب
يقع إقليم الخروب على الساحل الجنوبي لقضاء الشوف، على بُعد نحو 22 كيلومتراً من بيروت، ويمتد من الدامور إلى صيدا بطول يقارب 17 كيلومتراً، وصولاً إلى بلدة بسّابا على ارتفاع نحو ألف متر عن سطح البحر. يضم الإقليم أكثر من 140 ألف نسمة من مختلف المكونات اللبنانية والمقيمين من مناطق أخرى، إضافةً إلى مجتمعات لاجئة فلسطينية وسورية. وتُعدّ بلدات شحيم وبرجا وكترمايا الأكبر في المنطقة، إذ تضم 11 مدرسة رسمية من أصل 28 منتشرة في الإقليم، وتُطبّق مدرستان فقط الدمج التعليمي هما: مدرسة شحيم الرسمية ومدرسة الوردانية المختلطة الرسمية، بحسب قائمة المدارس الرسمية في بيروت وجبل لبنان.
تواجه بعض مدارس الإقليم تحديات في البنية التحتية، إذ تقع في أحياء ضيّقة يصعب الوصول إليها بالسيارات، ما يجبر التلامذة على السير لمسافات طويلة. كما تفتقر معظمها إلى التجهيزات اللازمة لدمج الأطفال ذوي الإعاقة، مثل الممرات والمصاعد والمقاعد ودورات المياه المخصصة، حيث تقتصر الممرات إن وُجدت على الطوابق الأرضية فقط.
تجربة مدرسة الوردانية: دمج بإمكانات محدودة
توضح صفاء فرحات، مديرة مدرسة الوردانية المختلطة الرسمية، لمنصة "شييك" تجربة المدرسة مع سياسة التربية الدامجة التي أطلقتها وزارة التربية عام 2023، وتستعرض التحديات منذ اعتماد المدرسة كدامجة. تشمل الحالات المدمجة صعوبات تعلم وتأخرًا دراسيًا، تعثّرًا في الكتابة والقراءة والحفظ، وضعفًا في الذاكرة والتركيز، وكانت المدرسة تتابع هذه الحالات سابقًا بشكل شخصي وإنساني لضمان دعم التلامذة غير القادرين على الالتحاق بمؤسسات خاصة.
واجهت المدرسة أيضًا حالات أكثر تعقيدًا، منها أطفال ضمن طيف التوحّد يعانون تكرار الحركات والكلام، وأطفال تأخروا في النطق نتيجة ضعف التواصل الأسري. بعض الحالات حُوّلت إلى مؤسسات متخصصة بالتعاون مع وزارة التربية واليونيسف لتلقي العلاج التأهيلي والنطق والعلاج الانشغالي. كما استقبلت المدرسة تلامذة تعرضوا لصدمات نفسية، مثل تلميذ تعرّض لتحرش من أحد أقرانه، حيث ساعدت المتابعة التربوية والنفسية على تحسين وضعهم.
على صعيد الأعداد، تشير فرحات إلى أن المدرسة تضم نحو خمسين حالة مدمجة، منها تلامذة يعانون صعوبات تركيز وتشوهات خلقية، مع تسجيل نحو أربعين حالة جديدة خلال العام الماضي. ومع مرور ثلاث سنوات على تطبيق الدمج، لا تزال المدرسة تواجه صعوبات تشمل نقص التدريب للمعلمات، غياب التجهيزات التكنولوجية، وافتقارها إلى فريق دعم متخصص من أخصائيين نفسيين وتربويين ومعالجي نطق وحركيين.
وترى فرحات أن أهمية الدمج تتجاوز الجانب الأكاديمي، لتشمل تعزيز قيم التعاون والمحبة ومكافحة التنمّر بين التلامذة، مقترحةً تدريبًا مستمرًا للهيئات التعليمية، وتجهيز المدارس بالكامل، وتوفير وسائل تعليمية حديثة، وإشراك فريق دعم متخصص لمواكبة الحالات الأكثر صعوبة، مثل الإعاقة السمعية والنطقية.
الأهل في مواجهة التحديات
عندما ولدت كريستينا، بدا الأمر طبيعيًا في البداية. كانت توأمًا مع شقيقتها، لكن لحظة الفرح تلتها لحظة قلق، إذ لاحظ الأطباء زرقة على وجه الطفلة الصغيرة. تمّ إدخالها إلى الحاضنة، وهناك بدأ الشك يساور الأسرة. كشفت الفحوصات عن ارتفاع في ضغط البطين، لتبدأ رحلة متابعة مستمرة شملت صورًا صوتية للقلب، بهدف الكشف عن السبب الحقيقي وراء هذا الاضطراب الصحي.
في عمر أربعة أشهر، خضعت كريستينا لعملية توسعة صمام القلب، خطوة طبية ضرورية، لكنها لم تكن نهاية المعاناة، بل بداية رحلة طويلة من الألم النفسي والجسدي. مع مرور الوقت، وفي ظل متابعة الأطباء المتخصصين في لبنان، تم إجراء فحوصات جينية وأُرسلت العينات إلى فرنسا. بعد شهرين من الانتظار، جاءت نتيجة الفحوصات لتكشف عن كسر في جين رقم 7، ما يؤكد إصابتها بمتلازمة ويليام، وهي متلازمة تؤثر على القدرات الذهنية وترافقها مشاكل صحية متعددة.
وتعرف متلازمة ويليامز بأنها: اضطراب جيني نادر ناجم عن حذف في الكروموسوم 7، يظهر في الطفولة بتأخر نمو عقلي وجسدي، مشاكل في القلب والأوعية الدموية، وملامح وجه مميزة، ويتم تشخيصها بفحوص جينية مع متابعة طبية شاملة لتحسين جودة الحياة.
تروي والدتها المشهد بمرارة:
"كانت الصدمة كبيرة علينا، وضغطت علينا رحلة علاج وتعليم صعبة، تتطلب عناية طبية وأكاديمية دقيقة، بالإضافة إلى تحديات اجتماعية قاسية، بينها التنمر الذي يُصيب إخوتها نفسيًا، بسبب الجهل وقلة التوعية في المجتمع والمدارس".
وفي محاولة لمنح كريستينا فرصة للتعلم، بدأت التعليم في مدرسة خاصة دامجة. لكن خصوصية حالتها استدعت نقلها إلى مدرسة متخصصة للأطفال المصابين بمتلازمة ويليام، حيث الرعاية تختلف وتتطلب تركيزًا أكبر ومسؤولية من الدولة.
الوالدة توجه نداءها إلى وزارة التربية: "رغم إعلان الوزير عام 2023 عن سياسة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس الرسمية، يطرح السؤال: كيف تُطبّق هذه السياسة؟ وهل تغطي جميع الحالات؟ بعض الأطفال يحتاجون فعلاً إلى مراكز متخصصة لا يمكن الاستغناء عنها. نحن كعائلات نتطلع إلى استجابة جدية تُعطي الملف البعد الإنساني أولاً، وتخفف العبء المالي والنفسي عنا، بدلاً من تركنا ننتظر بلا حلول واضحة. هذا التقصير لا يضر فقط الأسر، بل يؤثر على المجتمع بأكمله".
الدمج بحاجة إلى تخطيط وتنفيذ فعلي
في تصريح لمنصة "شييك"، تؤكد فرح الشيخ علي، مستشارة الدمج في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا، على أهمية التمييز بين "الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة" و"الأطفال ذوي الإعاقة". وتشير إلى أن غياب خطة واضحة وآليات عملية يعيقان تطبيق التربية الدامجة في لبنان، في ظل نقص الكوادر المتخصصة والدعم اللازم.
وترى أن إقرار سياسة دمج واضحة يمثل خطوة مهمة لتمكين ذوي الإعاقة من التعليم النظامي، لكنها تشير إلى استمرار ارتفاع نسبة الأمية بينهم بسبب التركيز على المراكز المتخصصة. وتوضح أن الأطفال ذوي الإعاقات الحركية والسمعية والبصرية يمكن دمجهم بسرعة أكبر إذا توفرت الإرادة والتجهيزات، لكن الواقع المدرسي لا يعكس ذلك.
ترى فرح الشيخ علي أن إقرار سياسة تربية دامجة واضحة يعد انتصارًا لحقوق ذوي الإعاقة، إذ يفتح فرص التعليم الأكاديمي والمهني لفئات حُرمت منه سابقًا. لكنها تشير إلى استمرار ارتفاع نسبة الأمية بينهم بسبب التركيز على مراكز متخصصة بدلاً من الدمج المدرسي، مؤكدة أن الدعم المؤقت في هذه المراكز لا يمكن أن يكون الحل الدائم.
وتلفت إلى أن المدارس في لبنان تؤدي وظائف متعددة تشمل التعليم، مراكز اقتراع، وملاجئ طوارئ، ما يجعل نقص التجهيزات يؤثر على حقوق ذوي الإعاقة في التعليم والمشاركة السياسية والكرامة الإنسانية، مؤكدة أن مراقبة الانتخابات الأخيرة أظهرت خطورة هذا الإهمال.
الوزارة ترد
قام معد التقرير بالتواصل مع وزارة التربية والتعليم العالي للحصول على توضيحات حول جهود المدارس الدامجة، وأكدت مديرة الإرشاد والتوجيه، الدكتورة هيلدا الخوري، بتكليف من الوزيرة ريما كرامي، أن جميع المدارس الدامجة مجهزة بالمعدات والموارد اللازمة، ويتم استكمال تجهيز البنية التحتية بالتنسيق مع وحدة الهندسة في الوزارة.
وأضافت أن الوزارة نظمت ورش عمل تشاورية وتدريبية بمشاركة خبراء في الدمج التربوي لبناء قدرات المعلمين والإداريين على تطبيق أساليب التعليم الدامج، مع الاستعانة بفرق دعم متعددة التخصصات لتقديم المساندة للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة.
وأوضحت خوري، في تصريح لمنصة "شييك"، أن المركز التربوي للبحوث والإنماء نفّذ دورات تدريبية متخصصة لمدة عشرة أيام لتعزيز مهارات المعلمين والإداريين في التعامل مع المتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة، بهدف دمجهم في البيئة المدرسية وإعداد بيئة تعليمية مرنة، على أن تُستكمل هذه الدورات دوريًا.
وأكدت أنه يُكلف سنويًا اختصاصيون من مجالات متعددة لتقديم الدعم اللازم للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال متابعة المتعلمين، الرصد المبكر، التدخل حسب الحاجة، دعم المعلمين، التنسيق مع أولياء الأمور، وتنظيم جلسات توعية حول التربية الدامجة.
وشددت خوري على التزام الوزارة بتطبيق السياسة الوطنية للتربية الدامجة بحلول عام 2030، رغم التحديات، مؤكدة السعي الجاد للوفاء بهذا الالتزام، مشيرة إلى إعداد خطة عمل خمسية وورقة مساندة للتربية الدامجة في المناهج، وإطلاق دليل المدارس الدامجة قريبًا، مع اعتماد منهج جديد قائم على مبادئ التربية الدامجة.
وختمت خوري تصريحها مؤكدة أن تحقيق هذا الهدف يتطلب تعاونًا بين مختلف الوزارات والقطاعات.
بين النصوص الجميلة والواقع
شكلت السياسة الوطنية للتربية الدامجة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان خطوة مهمة لتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وضمان المساواة في التعليم وفتح فرص متكافئة لهم في المستقبل.
إلا أن الواقع يختلف عن النصوص الرسمية. فبينما تنص السياسة على ضرورة تجهيز بيئات تعليمية دامجة ومراجعة كل جوانب النظام التعليمي، من المناهج وطرق التدريس إلى البنية التحتية، لكنها لم تُترجم بعد إلى خطوات ملموسة: المنهج الجديد لا يزال غير معتمد رسميًا بعد ثلاث سنوات، والمعلمون لم يتلقوا التدريب الكافي قبل تصنيف المدارس كدامجة، كما تواجه الوزارة صعوبة في الحصول على بيانات دقيقة عن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ما يعكس نقص التنسيق بين الجهات المعنية.
هذا التناقض بين الطموح الرسمي والواقع الميداني يبرز أن وعود السياسة الوطنية بحاجة إلى ترجمة فعلية على الأرض، لتصبح حقوق الأطفال ذوي الإعاقة حقيقة ملموسة وليس شعارات مكتوبة.
مع بداية عام دراسي جديد، تظل العوائق أمام الأطفال ذوي الإعاقة قائمة: تجهيزات ناقصة، نقص الكوادر المتخصصة، وتفاوت تطبيق سياسة الدمج بين المدارس. وبين الوعود الرسمية بتحقيق مدرسة دامجة بحلول 2030، يبقى السؤال: هل سنشهد تعليمًا شاملًا حقًا، أم أن الحق في الدمج سيظل مؤجلًا عامًا بعد عام؟